“النانو”.. النص في خمس كلمات
يُخطئ من يظن أن المحاولات التي يقوم بها بعض الكًتّاب اليوم من كتابة النص القصير هي اكتشافات للأراضي البكر والغابات العذراء، وذلك في إطار ما عُرف بأدب الوجيز، و لاسيما في مقاربة شكل (الهايكو) على وجه التحديد.. فمحاولة كتابة العالم بما لا يزيد على (خمس كلمات)؛ هي محاولات قديمة قدم الأدب نفسه رغم أزمنة المطولات التي عبرت على أجيال كثيرة.
فقبل (همروجة) الهايكو في السنتين الأخيرتين؛ عرف الوسط الأدبي والثقافي شكلاً أجدر في الكتابة العربية من الهايكو، باعتبار أنّ الهايكو لا يُمكن أن يكون غير ياباني، وكل محاولات تعريبه أو أمركته، أو أسبنته؛ لا تعدو أكثر من مقاربات لشكل الهايكو، وليس هايكو صرفاً، والأسباب كثيرة كنا شرحناها في غير مناسبة.
وربما كان الشاعر العراقي أسعد الجبوري من أوائل المُجربين في مجال نص النانو لغاية التّمرس على كتابة ما هو أبعد من الهايكو، وأشد اختصاراً من أي حجم شعري في العالم ألا وهو التجريب على صياغة مشروع عربي شديد الكثافة وشاسع الدلالات والمعاني.. وتتفق قصيدة النانو مع قصيدة الهايكو في أن التجربة المباشرة هي التجربة الجمالية، ففي الهايكو عليك أن تنسى العلاقة بين الذات والموضوع لتجرّب أكثر اللحظات جمالية، وهذا ما يُعبّر عنه (اوتسوجي) بقوله: (إن المرء يمضي في هذه الحالة إلى قلب الأشياء المخلوقة ويصبح متحداً بالطبيعة ).. أما في قصائد النانو، فعليك أن تنسى العلاقة بين الذات والموضوع، وتمضي إلى قلب الأشياء وتتحد بكل ما حولك وتغوص عميقاً في التجربة.. هكذا وبكلمات لا تقل عن ثلاث، وليست غالباً أكثر من خمس تختصر حالة ما في حياتنا المعاصرة عبر تجريب في اللغة والاشتغال على مفرداتها وزحزحتها كلياً من أماكنها المعتادة إلى أماكن أخرى لم نعتد عليها على المستوى الذهني ولا على المستوى البلاغي لخلق مشهد ربما نعرفه، لكننا لم ننجح مرةً في التعبير عنه، لكن الشاعر في قصائد النانو يقول هذا العادي مُخلصاً إياه من عاديته وحفره عميقاً داخلنا، فأي لغة تلك التي نملك وتستطيع أن تكون طوع أي شاعر شرط أن يعرف كيف يطوعها، وكيف ينقل الأفعال والدلالات والمجاز من منطقة إلى أخرى، ومن نص إلى آخر، وربما لخلق منجز شعري خارج سيطرة كل الذهنيات المسبقة والاشتغال على نص يرفض النص الأسبق ومنجزه الوصائي، كنص بلا اباء، نص يذهب بعيداً.. أبعد من نص الهايكو والتمرس بكتابته لخلق نص مُختصر هو شكل من أشكال حياتنا الراهنة، فالحياة سريعة والوقفة لا بد من أن تكون قصيرة في أي مكان، فكيف وإن كانت الوقفة في الشعر، كما قال باشلار مرةً: (القصيدة وقفة قصيرة في الزمن.)