في بادرة غير مسبوقة؛ أراد العيد أن يُعاين بنفسه مدى فرحة الناس بقدومه: الأطفال وربات وأرباب البيوت، وفي محاولته هذه قرر التخفي بأزياء المناطق التي سيزورها.
دخل الى بلدة نائية تلوح معالم الفقر فيها من بعيد؛ طرق باب منزل يصدر صريراً مزعجاً، فتح الباب طفل حافي القدمين شبه عارٍ، وفي فسحة الدار إخوة له يفترشون الأرض، وأم وأب شاردا الذهن.. التفت جانباً، وإذ ببقرةٍ مرمية وقد امتلأ جلدها بقروح ودمامل وكأنها تجهد للاستمرار على قيد الحياة.
سأل صاحب البيت: من الزائر؟
قال: أنا العيد
قال صاحب البيت: لا لست العيد، العيد يأتينا بثيابٍ مزركشة، وطعام الأضاحي التي ننتظرها كل عام.. يأتي لأولادنا بثيابٍ جديدة وأطعمة تفوح منها رائحة الشواء، فكيف تأتينا بثيابٍ كثياب أطفالنا؛ رثة تفوح منها رائحة الفقر؟
زار العيد أغلبية بيوت القرية النائية؛ كلها تتشابه في المصيبة، كلها تنتظر أن يقرع العيد أبوابها حاملاً ثياباً وطعاماً يليق به.. استوقفه منظر على شكل لوحة في أحد البيوت, حيث أرتال من البهائم توحي أنها فرحة ومسرورة.. سأل: ما هذا؟ قال صاحب البيت: هذه كانت مصدر رزقي الى أن أتت الحرب؛ فقد أخذ الإرهاب قسماً منها وهربّه خارج حدود القرية، والأخرى باتت (فطيسة) من القذائف حيناً، ومن المرض حيناً آخر.. بدأت معالم الانزعاج تلوحُ على محيّا العيد الذي يفترض أنه يحمل الفرح والبشرى للناس.. تمتم بكلمات غير مفهومة، وغادر بسرعة حتى لا يتمكن أحد من رؤية الدموع في عينيه.. وصل المدينة وتحاشى الدخول الى أحيائها الفقيرة لأنه سيسمع الآلام نفسها التي سمعها في القرية.. دخل الى أرقى أحياء المدينة؛ فلل، وسيارات فارهة، وأطفال يرتدون ثياباً أنيقة ونساء أنيقات, إحداهن كانت تجر وراءها كلباً تملأ ضحكاتهن المكان، ورائحة طعام شهية، وتفوح من كل الفلل ضحكات خشنة تصدر من حناجر خرشها «السيكار».. غافل الحراس ودخل إحداها بثياب القرية؛ صرخ صاحب المنزل: من أنت؟
قال: أنا العيد…
فردّ عليه: العيد لا يدخل خلسة؛ له طقوس ونحن نحتفل بها الآن…
قال: أنا العيد؛ لقد سرقتم طقوسي الفرحة، الأمتعة التي أحملها للأطفال، وطعام الفقراء.. سرقتم بهجتي التي ينتظرها الناس من عام لعام.
قال ذلك وخرج مسرعاً حتى لا يسرقوه، لكنه حدثني أن من بين الموجودين كان تاجر موز وتاجر سكر ورز وتاجر أعلاف وأصحاب وكالات وإجازات استيراد وتصدير, وشاهد أوراقاً ممهورة بتواقيع وأختام جاهزة للبيع.. وكان هناك شخصان لم يتأكد منهما، لكنه يرجح أن أحدهما مدير عام التهريب، والآخر مدير عام «السمسرة» يتفقان على (غزوة) جديدة للأسواق و يسرقان من خلالها ما تبقى من أحلام لدى الأطفال والفقراء.