الحالة تعبانة، ووصلت إلى مستوىً غير مسبوق من الإنهاك، والإعياء، والقوى التي (خارت إلى الآخر)، والحيل الذي انهدَّ تماماً ولم يبقَ منه ولا «حيلولة»، وهناك من يقول لك: «عليك أن تنظر إلى النصف الملآن من الكأس»، ولأنك لا تراه بحق، وبصرك وبصيرتك لم يعودا قادرين على تَلَمُّسه، تسأله: «أين يكمن ذلك النصف بالتحديد؟»، ليجيبك بأنك ما زلت قادراً على المشي والعمل وما زال فيك نَفَسٌ يتناوب في الخروج والدخول.
تفكِّر بأن تشتمه، ثم تترفع عن ذلك، فلا طاقة لك حتى على الشتيمة الواجبة في مثل هذه الحالات، بعد ثلاث دوريات من العمل المتواصل، وقلة ساعات النوم، وانتفاء العطلة من حياتك في سعيك الدائم لتأمين لقمة العيش، من دون أن تستطيع قدرتك الشرائية على مجاراة ارتفاع الأسعار، وحتى الخبز «ملاذك الأخير» كما تصفه دائماً، بات الحصول عليه طَيِّباً، لذيذاً، شهيّاً كما كان، أشبه بربحك لليانصيب، فهو إما «معجِّن» عند المعتمدين الذين لا يُعتمد عليهم لعدم تهويته كما ينبغي، أو «مسودّاً» بسبب الطحين المخلوط، أو له رائحة غير محببة لأن الخميرة من أردأ الأنواع، بينما الفاكهة صارت رفاهية، واللحمة حلماً صعب المنال، ناهيك بالحلويات التي كانت تُحلِّي مرارة الحياة، باتت هي الأخرى في عداد المنسيّات عن قصد وسبق تصميم، وكأنك تعترف في قرارة نفسك بأنك لم تعد قادراً على أن تكون حيَّاً بما فيه الكفاية، حتى إن مسؤول «الحاجز الصِّحّيّ» عندما قرَّب جهاز قياس الحرارة إلى جبينك، فتح فاهه دهشةً واستغراباً، غَيْرَ مُصدِّق ما تراه عيناه، لدرجة أنه كَرَّر ضغط الزِّر مرَّة ثانية، ولهول المفاجأة قال وهو «مُزْبَهِل»: «حرارتك صفر»، فهمستَ له: «وهل تظنُّ أنني حيّ؟ أنا شبحي»، ولمعرفته بمقولة «محمود درويش» ومحبَّته له، ضحك ملء قلبه، سامحاً لك بالدخول، وعند المَشْرَب تذكرت النصف الملآن من الكأس، أفرغته في جوفك، وكلُّك إيمان بأن ما من أحد يستحقه أكثر منك.