رأسُ المالِ الثقافيّ

رأسُ المالِ، حسب ما توصّل إليه المفكر الشهير كارل ماركس وبشرح مبسط هو: «النقود التي تُستخدم لإنتاج مزيدٍ من النقود».
لكن الطريقة التي يتم التعاطي بها مع تلك النقود، واختلافها من حيث التخزين والتوظيف في عملية الإنتاج بكل أشكاله، ومن ثمَّ تداعيات تراكم رأس المال من خلال الإنتاج وإعادة الإنتاج؛ جعلتا هذه النظرية الاقتصادية الشهيرة لـكارل ماركس بمنزلة «المنهل»، لكن لم يعد رأس المال المادي هو المفهوم الوحيد، أو لنَقُلِ العامل الوحيد المؤثّر في مسيرة المجتمعات البشرية، بل ثمة عوامل غير مادية أصبح لها دورٌ مهمٌ أيضاً في نهوض المجتمع وارتقائه، وظهرت مصطلحات عدّة مثل: «رأس المال البشري، رأس المال الرمزي، رأس المال الثقافي، ورأس المال الاجتماعي..»، أي إن المخزون المعرفي والعادات والتقاليد والسمات الاجتماعية والشخصية مثل «الشرف والسمعة الطيبة.. إلخ» التي يمكن أن تكون موارد متاحة للفرد، يمكن مع توظيفها أن تشكِّل رأسمالاً رمزيّاً، وكذلك العلاقات الاجتماعية والتعاون والثقة لتحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية، تعدّ رأسمالاً أيضاً، إضافة إلى الثقافة السائدة في المجتمع.
فهذه كلّها عوامل مؤثِّرة ومهمة، يجب النظر إليها والتعامل معها على أنها «رأسمال»، وعنها يقول بيير بوردو -عالم اجتماع فرنسي 1930-2002م-: «إن رأس المال البشري، الثقافي، والاجتماعي، تسهم كلّها في تكوين وزيادة رأس المال المادي» مفسّراً كلامه: «بأنّها تتشكّل من خلال الإلمام بالثقافة السائدة في المجتمع والاعتماد عليها، وهي مقسَّمة لقسمين، رأسمال ثقافي مكتسب ورأسمال موروث».
إن «رأس المال» في زمن الصراعات، وما تشهده الساحة العالمية من تصعيد في كلّ النواحي، وما تقوم به قوى عظمى ومؤسساتها من حيث استخدام الثقافة أداةً فعّالة في نزاعاتها وحروبها، كلّه يفرض علينا إيلاء الثقافة في مجتمعاتنا اهتماماً كبيراً يصل حدّ التجنيد والتسلّح بمقوماتها لما لها من دور عظيم، وعدّها الحصن الحصين، لأن المطلوب منّا في القادم من الأيام ثقافةٌ منتجة وقادرة على المنافسة والحضور وفرض نفسها بقوة والمشاركة في الحوار الواعي البعيد عن التكلّف.. حوار حضارات يعبّر عن مضمون ومحتوى راقيين لا أن يكون مجرد حوار تسيطر عليه المجاملات الدبلوماسية!!
أين يمكن أن يوجد رأس المال الثقافي، خاصة في زمن الحرب؟
المفهوم الثقافي، بأشكاله المتنوعة، من عادات وموروث وأشكال موضوعة «أعمال أدبية وفنية وشهادات علمية.. إلخ»، وممارسات الحضور الثقافي مثل زيارة المتاحف وارتياد المسارح وحضور الندوات..إلخ، كلّها تفاصيلُ تقع مسؤوليتها اليوم على عاتق المؤسسات الحكومية من إعلام وتربية وغيرهما، لكنّ أيضاً يجب على الطبقة المثقّفة عدّ المرحلة التي نعيشها جبهة قتال وحرباً فكرية وثقافية، وعلى المثقّفين أن يكونوا حريصين على أن يكون منتجهم الثقافي جدار صدٍّ أمام المفاهيم الهدّامة والمصطلحات الدخيلة والخبيثة المشغول عليها بعناية للمشاركة في الهجمة التي تُشنّ على بلدنا، وخدمة مشروعاتهم المدمِّرة المبنية على إحداث خروقات وانقسام وتنافر وهشاشة في ذات الفرد أولاً والمجتمع ثانياً.
إنَّ حجم التراكم الثقافي في كلِّ مجتمع إنما يعكس حجم موروث القيم العامة وشبكة العلاقات الناظمة لسلوك الأفراد، ولطالما تفاخرت سورية بالتنوعّ الحضاري والغنى الثقافي فيها، وما علينا اليوم إلّا تأكيد هذا الإرث والمحافظة عليه، وتوثيقه وتكريسه في عقول الشباب وحثّهم على التمسك به، والعمل على تحصينهم للوصول بهم إلى مرحلة الثبات والاعتزاز بانتمائهم إلى وطنهم.

m.albairak@gmail.com

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار