هل نترحم على أيام ترامب؟
تعرض الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب خلال فترة رئاسته وما بعدها إلى الكثير من الانتقادات شديدة القسوة بسبب سياساته وتصريحاته ومواقفه فيما يتعلق بالسياسة الخارجية.
فمن عدم الاتزان، وغياب الرؤية الإستراتيجية، إلى وصف سلوك إدارته بالتأرجح والتذبذب وصولاً للتناقض، فيما وصل البعض للحديث عن كون “حالة الفوضى المدمرة التي أحدثتها سياسات وتصريحات ترامب هي حالة ملائمة تماماً لنزوع شخصيته غير المستقرة نحو الإثارة وبأنه يعاني من أعراض لمرض ذهاني خطير ويصعب علاجه”.
وإذا ما استعرضنا بعض أبرز مواقف إدارة ترامب بدءاً من الاعتداء على سورية وإبقاء قوة احتلال أميركية فوق أراضيها لتوفير الحماية لتنظيم “داعش” وسرقة موارد السوريين، إلى الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني وما نتج عنه من زيادة التوتر في المنطقة، والاعتراف بالقدس “عاصمة” لكيان الاحتلال الإسرائيلي ونقل سفارة واشنطن إليها، وانسحابه من العديد من المنظمات الدولية على الرغم من أن معظمها كان ينفذ سياسات واشنطن التي اعتادت استخدام تلك المنظمات كأدوات لمواجهة خصومها في السياسة، والنزاعات مع الصين وروسيا، وغيرها من السياسات التي جعلت الكثيرين يتفقون على أن الانتقادات التي تم توجيهها إلى ترامب لم تكن بعيدة عن الواقع.
في أعقاب انتهاء الحرب الباردة -التي دامت من نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1946 إلى انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991- أصبحت الولايات المتحدة القطب الأوحد القادر على التفرد إلى حد بعيد في رسم السياسات الدولية وفق مصالحها وفرض نهجها والتدخل في شؤون الدول، واستمر الوضع على هذا المنوال حتى بدأت روسيا باستعادة بعض قوتها كلاعب مهم على الساحة الدولية، فيما برزت الصين كقوة كبرى أيضاً ولو كان ذلك من البوابة الاقتصادية.
التغيرات على الساحة الدولية ألقت بظلالها على الإدارات الأميركية المتعاقبة التي مازالت حتى يومنا هذا تتصرف بكثير من العناد على أنها القطب الأوحد وترفض عودة التوازن إلى العلاقات الدولية، وتتخذ مواقف غاية في التشدد والعدائية ضد كل من يعارضها أو يتخذ مواقف لا تنسجم مع سياساتها، الأمر الذي جعل الكثير من السياسيين والمحللين يتخوفون من حرب باردة جديدة مع كل ما يحمله ذلك من آثار سلبية على الاستقرار في مختلف بقاع الأرض.
الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن عاصر حقبة الحرب الباردة كعضو في مجلس الشيوخ، وكان أحد السياسيين البارزين خلال فترة التفرد الأميركي على الساحة الدولية، وبهذا الإطار يمكن تفسير السياسات التي تنتهجها إدارته اليوم ضد روسيا والصين، ومواقفها العدائية، وإجراءاتها “العقابية” في محاولة لفرض ميزان قوى جديد يقلص من قدرات هذين البلدين ومكانتهما كقوتين عظميين، وللإيحاء بأن الولايات المتحدة ما زالت هي الشرطي القادر على ضبط إيقاع العالم كما يريد.
المشكلة الكبرى التي تواجه طموحات بايدن هي أن العالم قد تغير فعلاً، وروسيا والصين لديهما من القوة والتحالفات ما هو كفيل ليس فقط بإفشال المخططات الأميركية، بل أيضاً في توجيه ضربات موجعة للولايات المتحدة الأميركية في العديد من المجالات والأمكنة، وبهذا الإطار يمكن قراءة السياسات الثابتة الموزونة التي تنتهجها موسكو وبكين في الرد على عدوانية واشنطن من جهة، والتناقضات والتصرفات غير المتزنة التي ينتهجها بايدن في التعامل مع نظيريه الروسي والصيني.
في الأسابيع الأخيرة حملت تصرفات بايدن الكثير من التناقص والغرابة في تعامله مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وصفه أولاً بـ”القاتل”، وبعد فترة اتصل به ليعرب له عن استعداده للتعاون بين البلدين، وعرض عليه لقاء شخصياً، ودعاه إلى قمة المناخ، بعد ذلك فرض عقوبات جديدة على روسيا، ثم عاد وأعلن بأنه لا يسعى لتصعيد التوتر بين البلدين، وأنه يجب عليهما العمل معاً، لكنه في الوقت نفسه وعد بفرض عقوبات جديدة عليها.
مع الجانب الصيني، قال بايدن إن بلاده لا تسعى للمجابهة مع بكين، ودعا أيضاً نظيره الصيني إلى أول مفاوضات شاملة حول تكثيف الجهود الدولية لمحاربة تغير المناخ. لكنه يعمل في الوقت نفسه على تشكيل تحالف ضدها، وصرح أن الولايات المتحدة وحلفاءها “سيحاسبون” الصين لإجبارها على “الالتزام بالقواعد” في ما يخص قضايا تايوان أو نشاط بكين في بحر الصين الجنوبي، وذلك بعد أن فرض عقوبات عليها.
في السياق يمكن قراءة مقال المحلل السياسي الروسي ألكسندر نازاروف في روسيا اليوم، حيث يرى الكاتب أنه بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فإن “تدمير روسيا والصين هو قضية بقاء”، فهل تواصل إدارة بايدن نهجها هذا مع كل ما ينبئ به ذلك من أضرار إضافية على الأمن والسلم الدوليين بما يجعل العالم يترحم على حقبة ترامب؟.. لا شك أن غياب العقلانية في تصرفات واشنطن تجعل الإجابة واضحة.