الوجه الثاني لـ«أبغض الحلال» يربك المجتمع السوري… ٦% نسبة زواج القاصرات في محاكم دمشق وريفها
تشرين- دينا عبد:
لم يخطر في بال بشرى «الأم الصغيرة»، التي لم تتجاوز الخمسة عشر ربيعاً، التي اضطرتها ظروف الحرب والنزوح لترك مقاعد الدراسة في الصف الثامن وسرقت طفولتها، عبر الزواج المبكر، لتدخل قسراً في عالم المسؤولية مبكراً، كحل لواقعها المتأزم.
بشرى الاسم المستعار لتلك الفتاة، وجدت نفسها في مدرسة بدمشق، لكنها هذه المرة مفرغة من مقاعد الدراسة، ومعدة لتكون مركزاً لإيواء الأسر السورية الهاربة من الحرب، وعليه تقول: «لجأت للزواج هرباً من الفقر والبؤس، ولأخفف عن أهلي عبئاً مادياً لا يستطيعون تحمله»، ومن هنا اصطدمت بواقع مرير، خاصة أن حال زوجها ليس أفضل من وضع أهلها، لذلك بقيت ضمن دوائر الحرمان، فهي تشتهي بعض أنواع الأطعمة الضرورية لجسمها كمرضعة، مثل البيض والحليب، لكنها تحرم نفسها منها لتوفرها لطفلتها.
في مركز الإيواء
حكاية بشرى تشبه العشرات من قصص النسوة الموجودات في مركز الإيواء الذي قصدناه، بغية استطلاع أوضاع المتزوجات دون الخمسة عشر عاماً، مع وجود فوارق بالمسببات والدوافع لزواجهن، فمنهن أسوأ حالاً كـ«هدى» المتزوجة بعمر الأربعة عشر عاماً، والأم لطفلين، والفاقدة معيلها نتيجة الحرب، إضافة إلى أخريات يعانين ظروفاً قاسية ومأسوية مع أطفالهن، ليكتفين بالحياة تحت عباءة الإعانات التي توزع عليهن بالمركز.
إذاً حسب التسلسل العمودي، فالفقر، والتقاليد، والحرب، وما رافقها من تشرد ونزوح، كانت من أهم الأسباب التي دفعت الفتيات السوريات وأهلهن للقبول بالزواج المبكر، كحل بديل لمواجهة هذه العوامل، من دون التفكير بالعواقب الكارثية على الفتاة بالدرجة الأولى وعلى الأطفال بالدرجة الثانية.
مرفوض وفق المعاهدات الدولية
إن الزواج المبكر دون سن الخامسة عشر عاماً، أو زواج القاصرات كما يسمونه مرفوضٌ وفق المعاهدات الدولية، لما له من آثار سلبية على الصحة الجسدية للفتاة وجنينها.
القاضي في المحكمة الشرعية في دمشق يحيى الخجا بيّن في تصريح خاص لـ«تشرين» أن نحو٦% نسبة زواج القاصرات (من هم دون الـ ١٨ عاماً) في المحاكم التي تخدم دمشق، وقطاع واسع من الريف، فعلى سبيل المثال وبالرجوع إلى سجلات المحكمة الشرعية تبين أنه تم في الشهر الأول من عام 2021 إبرام 1611عقد زواج منها 146عقداً لقاصرات دون الـ18عاماً.
وبالرجوع إلى شهر شباط من عام 2021 بلغ عدد العقود المبرمة 1533عقداً منها 132عقداً لقاصر. وبالمقارنة في عام 2022 في الشهر الأول أبرم 1122عقداً منها76عقداً لقاصرات (دون ١٨ عاماً) وفي شباط كان عدد العقود المبرمة 1077عقداً منها 78 عقداً لقاصر.
وبحسب القاضي فإن الأرقام المعروضة، التي تبين أن نسبة زواج القاصرات (دون ١٨ عاماً) ليست بالنسبة الكبيرة، إنما هي نسبة معقولة تتناسب مع وجود وتباين في ظروف وأحوال الأسر في بيئاتها المختلفة.
وتجدر الإشارة إلى أن قانون الأحوال الشخصية السوري، كان متوازناً ومتقدماً وسبّاقاً بين القوانين العربية، حيث وضع ضوابط وضمانات لزواج الفتيات لمن هنَّ دون سن الـ 18عاماً، من خلال الضوابط الخمسة التالية:
أن تكون الفتاة قد أتمت الخامسة عشرة من العمر (أي إنها في أول يوم من عمرها السادسة عشرة) وأن تكون البنية الجسدية والفيزيولوجية مناسبة للزواج، ومعرفة الطرفين بالحقوق الزوجية، وموافقة الولي ولاسيما الأب والجد للأب، والضابط الأهم من كل ذلك موافقة القاضي الشرعي، ونصت عليه المادة ١٨ من قانون الأحوال الشخصية السوري؛ ناهيك بأن القانون قد أجاز لكلا الزوجين، ولاسيما للزوجة أن تشترط في عقد الزواج ما تشاء من شروط مشروعة، تتعلق بإتمام الدراسة أو عدم السفر أو غير ذلك.
قانون العقوبات وضع ضوابط لزواج القاصرات
وعن العقوبات بيّن القاضي الخجا: قانون العقوبات السوري كان له دور في الضمانة والضوابط الموضوعة لزواج القاصرات، ومنها أنه شدد عقوبة إجراء زواج خارج المحكمة، إذا كانت الزوجة قاصراً (دون ١٨) ولو مع وجود موافقة الولي، إذ رفع الغرامة حتى(٥٠) ألف ليرة في هذه الحالة، وعاقب بالحبس حتى ستة أشهر، وبالغرامة حتى(٥٠) ألفاً إذا كان زواج القاصر المعقود خارج المحكمة، قد تم من دون موافقة وليها، وهذه التعديلات أتت بالقانون ٢٤ لعام ٢٠١٨.
أسباب انتشار الظاهرة
بدوره الباحث في القضايا النفسية والاجتماعية د.حسام الشحاذه بيّن أسباب انتشار هذه الظاهرة بعيداً عن العوامل الاقتصادية؛ فزواج القُصّر أو الزواج المبكر، يشير إلى حصول واقعة الزواج، ولم يصل أحد الزوجين أو كلاهما (البنت أو الولد) إلى واحدة أو أكثر من أنواع النضج التالية: (النضج الجسدي، النفسي الانفعالي، العقلي والمعرفي، والاجتماعي والاستقلالية الاقتصادية)، ما يؤدي إلى تشكل أسرة غير مكتملة النضج والرشد، وتالياً تدهور استقرار الحياة الزوجية لاحقاً. فالنضج الجسدي يشير إلى قدرة الزوج أو الزوجة على تحمل جميع أعباء ومسؤوليات الزواج، من الناحية الجسدية المتمثلة بمتطلبات الحمل والولادة، والقدرة على القيام بالأعباء الأسرية داخل وخارج المنزل.
والنضج النفسي والانفعالي الذي يبين تمتع الزوج أو الزوجة ببنية نفسية وانفعالية تمكنهم من تحمل جميع الضغوط الناجمة عن تكوين أسرة والقيام بمسؤولياتها .
النضج العقلي والمعرفي: وهو امتلاك الزوج أو الزوجة للقدرات العقلية والمهارات المعرفية التي تمكنهما من التعامل المنطقي والعقلاني مع كل متطلبات الحياة الأسرية وكيفية مواجهة مشكلاتها المحتملة.
النضج الاجتماعي والاقتصادي: القدرة على تحمل متطلبات الحياة المعيشية للأسرة والأبناء من تأمين: (المسكن، الأكل، الشرب، متطلبات الحياة التعليمية للأبناء لاحقاً، الدخل الثابت والمستقر).
ويتابع د. الشحاذه؛ لوحظ في الآونة الأخير ظهور العديد من الأهالي ممن لجأ إلى تزويج أبنائهم في سنٍ مُبكر وخاصة الفتاة، ولهذه الظاهرة عدة أسباب كتدني المستوى المعيشي والاقتصادي للأسر، ولاسيما خلال سنوات الحرب المجحفة اقتصادياً على معظم مكونات مجتمعنا، ما دفع بعض الأهالي إلى تزويج بناتهن في سنٍ مبكرةٍ بهدف التخلص من أعبائهن المعيشية، وهناك عامل الجهل والتخلف وتدني المستوى الثقافي، فقد أثبتت العديد من الدراسات أن ظاهرة زواج القُصّر تنتشر بكثرة بين التجمعات البشرية التي تكون فيها نسب الأمية والجهل مرتفعة ومتأصلة معاً في البنية المعرفية للأهالي، ويعدّ التسرب الدراسي والرسوب المتكرر عاملاً مهماً لزواج القاصر في سن مبكرة، بسبب عدم القدرة على توفير تكاليف الدراسة. كل ما سبق يمكن إدراجه تحت عباءة غياب التطبيق الحقيقي للقوانين الرادعة، فهناك العديد من القوانين الشرعية التي ترفض فكرة الزواج المبكر أو زواج القُصّر، إلّا أن بعض المجتمعات لا تعمل بتلك القوانين في ممارساتها الاجتماعية، فتحصل واقعة الزواج بطرق الزواج العرفي أو زواج خارج دوائر المحاكم الشرعية، وعند حصول واقعة الحمل يضطر القاضي الشرعي إلى تثبيت زواج القاصر، لتثبيت نسب الطفل في دوائر النفوس، وهنا يتحول النص من مانع لزواج القاصر إلى منفذ قانوني، ورغم أن الغرامات المالية أو الجزائية قد تكون باهظة إلّا أنها لن تكون رادعة بالقدر الكافي لمنع هذه الظاهرة.
الآثار السلبية
وفي هذا السياق يوضح د. الشحاذه الآثار السلبية وفي مقدمتها المخاطر الجسدية المترتبة على الزوجة القاصر في سن مبكرة، والتي قد لا تكون ناضجةً من الناحية الجسدية والنفسية والانفعالية، لتحمل أعباء الحمل والولادة والإرضاع والتربية، كما أن الزوج القاصر قد لا يكون ناضجاً جسدياً أو نفسياً أو قد يكون قليل الخبرة لتحمل أعباء العمل وتأمين متطلبات الأسرة، ولاسيما ما يتعلق بتربية الأبناء، وهنا سؤالٌ مهم يطرح نفسه وهو (كيف يمكن لزوجين غير مكتملين نفسياً وانفعالياً واجتماعياً وعقلياً ومعرفياً وأخلاقياً تربية الأبناء مستقبلاً؟)، فالزوجان ما زالا في سن الطفولة المتأخرة أو سن المراهقة، وقد يحصل أنهما لم يعيشا طفولتهما بعد، فهما قليلا الخبرة بقضايا تربية الأبناء، ولم يعيا معنى المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية والاستقلالية في اتخاذ القرار، أو قد يستمران في الاتكالية عند تربية الأبناء على الجد والجدة، يضاف إلى ذلك ما بينته عدة دراسات معمقة أجريت وبيّنت انتشار نسب الطلاق بين الأزواج الذين كانوا في سن غير قانونية (قُصّر أو أحداث)، ولم يحدث بينهما أي وفاق عندما وصلا إلى سن الرشد، ليعيا أنهما غير متوافقين أو غير قادرين على الاستمرار بحياةٍ زوجيةٍ سعيدةٍ، فيكون الطلاق هو الحل لإنهاء هذه المعاناة.
الحلول الممكنة للحد من الظاهرة
وعن أهم الحلول الممكنة للحد من ظاهرة زواج القُصّر في المجتمع السوري، بيّن أنها تتوقف بالدرجة الأولى على زيادة الوعي بمخاطر الزواج المبكر، ولاسيما على الفتاة أولاً وعلى الذكر ثانياً، وتعميق الوعي بالمخاطر الصحية والجسدية والنفسية والانفعالية والاجتماعية التي يمكن أن تترتب على الأهل وعلى الزوجين القُصّر، ولابدّ من تضافر جهود جميع مكونات المجتمع للحد من هذه الظاهرة ( وسائل الإعلام، الوعي الأسري، الدولة، الجمعيات الخيرية ومؤسسات المجتمع الأهلي) لنشر الوعي بين أبناء المجتمع حول مخاطر ظاهرة الزواج في سنٍّ مبكرةٍ، والتأكيد على أهمية تفعيل القوانين والأنظمة الشرعية والجزائية الرادعة التي تحدّ من هذه الظاهرة الاجتماعية التي تعكس مؤشرات التخلف والجهل.